بومبيو يستجدي حوارا بلا شروط مع ايران.. هل بدأ العد التنازلي للتراجع الأمريكي عن احتمالات الحرب ؟

بومبيو يستجدي حوارا بلا شروط مع ايران.. هل بدأ العد التنازلي للتراجع الأمريكي عن احتمالات الحرب ؟

لم يفاجئنا هذا التراجع المهين من قبل مايك بومبيو، وزير الخارجية الأمريكي، الذي عبر عنه في مؤتمر صحافي مع نظيره السويسري اليوم، وتمثل في استعداد حكومته للحوار دون شروط مسبقة مع ايران، كما لم يفاجئنا في الوقت نفسه الرد الإيراني السريع على هذا التراجع الذي ينطوي على قدر كبير من الكبرياء، وتضمن المطالبة بتغيير السلوك الأمريكي كشرط أساسي للذهاب الى مائدة المفاوضات، فما الذي يجري بالضبط، وما هي الأسباب التي دفعت بإدارة كانت تهدد بالأمس بحاملات الطائرات، والقاذفات العملاقة، الى تغيير موقفها من النقيض الى النقيض؟

بومبيو الذي تنازل عن شروط حكومته الـ12 التي وضعها كشرط لاي حوار مع ايران قبل أسبوعين فقط، بات يدرك ان ايران لم ترعبها التهديدات بالحرب، وان شعبها بات موحدا خلف قيادته، ومستعد لكل الاحتمالات سواء الحرب الاقتصادية او الحرب العسكرية، ولهذا بدأ النزول عن الشجرة وبأسرع مما تصوره الكثيرون، بما في ذلك الخصم الإيراني.

الرد القوي، والمزلزل، على الرئيس ترامب وتهديداته بالحرب لم يأت من القيادة الإيرانية، وانما من قبل حلفائها في المنطقة، عملياتيا من خلال تفجير اربع ناقلات نفط في ميناء الفجيرة، وتخريب مضخات نفط غرب الرياض من خلال سبع طائرات مسيرة ملغمة، وشفهيا من خلال السيد حسن نصر الله، امين عام “حزب الله” في خطابه القوي التاريخي الذي القاه بمناسبة يوم القدس العالمي وهدد فيه بأن الحرب اذا ما اشتعلت فتيلها لن تكون محصورة داخل الحدود الإيرانية وستحرق إسرائيل والمملكة العربية السعودية، وكل المصالح الامريكية في المنطقة.

نعم.. على الولايات المتحدة ان تغير سلوكها ليس تجاه ايران، وانما كل الدول العربية والإسلامية أيضا، لان العنصرية وسياسة الغطرسة والترهيب، والتلويح باستخدام القوة، باتت كلها تعطي نتائج عكسية تماما، وما تراجع بومبيو الفاضح عن شروطه للتفاوض الا الاعتراف العلني بفشلها.

***

ايران، مثل كوريا الشمالية، لن تذهب الى أي مفاوضات مع إدارة الرئيس ترامب الا بعد الرفع الكامل للعقوبات الاقتصادية، والعودة الى مرحلة ما قبل انسحاب الرئيس ترامب من الاتفاق النووي، وشريطة ان لا تشمل هذه المفاوضات صواريخها الباليستية، وحقها المشروع في تخصيب اليورانيوم للأغراض السلمية.

الرئيس الإيراني حسن روحاني كان بليغا عندما قال ان أي مفاوضات مع أمريكا يجب ان تتم في اطار “الاحترام”، ولا يمكن ان تتم نتيجة املاءات، ولكن مشكلة السيد روحاني وكل الشرفاء في المنطقة، ان ترامب ورهطه لم يتعودوا على من يخاطبهم بمثل هذه اللغة، ولان قاموسهم لا يضم كلمات مثل الاحترام للطرف الآخر، بل الخنوع للاملاءات، والاستسلام دون شروط، وتلبية المطالب الامريكية الابتزازية دون أي تردد.

السياسة الامريكية تنهار في منطقة الشرق الأوسط، وحلفاء الرئيس ترامب يتساقطون، فها هو بنيامين نتنياهو العمود المركزي لهذه السياسة بفشل في تشكيل حكومة، ويواجه السجن بتهم الفساد، وها هي صفقة القرن التي هندسها صهره جاريد كوشنر تتبخر بطريقة مخجلة وتلفظ أنفاسها الأخيرة، وها هو الناتو العربي السني الذي جرى التعويل عليه كثيرا لكي يكون رأس حربة في أي مواجهة مع ايران يلفظ أنفاسه، ولا يجد معزين، ولا من يتقبلون العزاء.

الوزير بومبيو بات يستجدي المفاوضات مع ايران، لان انتظار رئيسه بالقرب من هاتفه في البيت الأبيض على امل ان يهاتفه الإيرانيون طال اكثر من اللازم، فقد اندثر ذلك الزمن الذي كانت تستطيع فيه الإدارة الامريكية املاء شروطها على من يملكون الكرامة الوطنية وعزة النفس الشخصية، ويهرولون الى واشنطن طالبين الصفح والغفران.

لا نجادل مطلقا بأن أمريكا دولة عظمى، وان إسرائيل تملك 300 رأس نووي، وحلفاء البلدين في منطقة الخليج يملكون المال، بل والكثير منه، ولكن ماذا ستفعل كل هذه الصواريخ والتريليونات، اذا انهالت الصواريخ مثل المطر على الدولة العبرية من كل الاتجاهات، وضربت الزوارق الانتحارية السريعة محطات المياه والتحلية والكهرباء وآبار النفط والغاز، ناهيك عن المدن الكبرى الخليجية و”الإسرائيلية” المزدهرة؟

نطمئن الوزير بومبيو بان ايران لن تتصرف كبلد “عادي”، وتتخلى عن ترسانتها الصاروخية، وتوقف الدعم المالي والعسكري عن حلفائها في سورية واليمن وفلسطين ولبنان والعراق، لان “العادية” في المفهوم الأمريكي تعني التخلي عن كل أسباب القوة، وانتظار التدمير على غرار ما حدث في ليبيا والعراق واليمن، ولا نعتقد ان الإيرانيين الذين اداروا الازمة مع أمريكا بكفاءة عالية على مدى 40 عاما من الحصار على هذه الدرجة من الغباء مثل بعض العرب للأسف.

لا نثق مطلقا بالولايات المتحدة، ولا نطمئن ابدا لتصريحاتها العلنية، ومع ذلك نحن على ثقة بأنها تعيش ورطة كبرى في منطقة الشرق الأوسط اسمها ايران، ومحور المقاومة، هذا المحور الذي طور استراتيجية ردع عسكرية ادواتها ذاتية، وغير مستوردة، والاهم من كل ذلك امتلاكه للقدرة على اتخاذ القرار بالدفاع عن النفس وعدم الاستسلام للتهديدات، وايا كان مصدرها.

***

لا نستبعد ان تذهب ايران للحوار استجابة للوسطاء الذين باتوا يطرقون أبوابها بطلب أمريكا، وبات من الصعب علينا ذكرهم لكثرة اعدادهم، ولكنه حوار لن يتم الا بعد رفع الحصار، ولن يكون حوارا سهلا على الاطلاق، فالمفاوض الإيراني ليس مثل نظيره العربي، ملوى وقصير النفس، ويرضخ بسهولة للضغوط، وعلينا ان نتذكر ان مفاوضات الاتفاق النووي بشقيها، العلني والسري، استمرت خمس سنوات، وانسحاب ترامب منها، واعتبارها الأسوأ في التاريخ على حد وصفه، يؤكد ان الإيرانيين خرجوا منها الأكثر ربحا وانجازا، فماذا يمنع ان تكون نهاية أي مفاوضات جديدة مشابهة، بل متطابقة؟

باختصار شديد نقول ان تنازل بومبيو “الصقر” عن شروطه الـ12 هو اعتراف اولي بالمأزق، وأول خطوة على طريق التراجع والاستسلام بحثا عن “مخرج كريم” ينقذ ما تبقى من ماء وجهه ورئيسه تجنبا لاي حرب يمكن ان تسجل نهاية الإمبراطورية الامريكية، مثلما كانت حرب أفغانستان نهاية الامبراطورية السوفيتية، وحرب السويس نقطة النهاية للامبراطوريتين البريطانية والفرنسية والاستعمار القديم عموما.. والأيام بيننا.

عبد الباري عطوان

تابعونا عبر تليغرام
Ad 6
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com