المجتمع الدولي عاجز… وعلى العرب أن يجدوا حلاً
مرّ أسبوعان على الحرب في غزة، ولا تزال المأساة مستمرة ومتفاقمة. قُتل وجُرح الآلاف، وشُرِّد مئات الآلاف من ديارهم، ودُمِّرت كلُّ مقومات الحياة، وارتكبت مجازر بحق المدنيين الأبرياء، كان آخرَها وأفظعَها، مجزرةُ المستشفى الأهلي الشنعاء، التي يندى لها جبين الإنسانية، وأحسب أنها ستلاحق مرتكبيها، وتبقى وصمة عار في جباههم.
الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا، انحازت لإسرائيل ابتداءً، بينما بقي بعضها متفرجاً، آملا في التوصل إلى حل للأزمة، ولا يبدو في الأفق حل عملي لهذه المأساة الإنسانية المتواصلة، والتي عجز العالم عن حلها على مدى 75 عاماً.
المواقف العربية بدت موحدة، خصوصاً الدول التي تعدُّها الولايات المتحدة حليفةً لها، والتي رفض قادتها اللقاء بالرئيس جو بايدن، احتجاجاً على الموقف الأميركي المساند لإسرائيل، وهذا يُسجل لهم. فما الهدف من اللقاء إن كان الموقف الأميركي المعلن مسانداً لإسرائيل، رغم فظاعة ما تفعله في غزة؟ وهل كان لدى الرئيس الأميركي حلٌ محدد يمكن أن يناقشه مع القادة العرب؟
لكن السؤال الجوهري يبقى قائماً، وهو إن كان الحل الدولي متعذراً، لسبب من الأسباب، فلماذا تغيب الحلول العربية؟
الدول العربية لم تعد ضعيفة كما كانت سابقاً، فثمة الآن دول لها وزن سياسي واقتصادي واستراتيجي وعسكري في العالم، ويمكنها أن تتبنى موقفاً وتسعى لكسب الرأي العام العالمي له. الموقف العربي الوجداني واضح، وهو الوقوف مع الشعب الفلسطيني لاسترداد حقوقه الكاملة. لكن الموقف الوجداني وحده ليس كافياً، فهو يحتاج إلى موقف عملي كي يكون نافعاً ويتحول إلى واقع.
الاجتياح الإسرائيلي البري لغزة لم يعد ممكناً، خصوصاً في أعقاب مجزرة المستشفى، ولكن كل شيء محتمل في ظل وجود بنيامين نتنياهو، الذي يبدو أن حياته السياسية تلفظ أنفاسها الأخيرة، ليس فقط بعد تخبطه خلال أزمة “طوفان الأقصى”، ولكن نتيجة للمشاكل والانقسامات التي أحدثتها زعامته في المجتمع الإسرائيلي، على مدى عقدين من الزمن، والتي غيَّرت المشهد كلياً، فصارت الأحزاب الإسرائيلية بوجوده يمينية متشددة، ولم يعد بينها من يسعى لحل سلمي مع الفلسطينيين.
إن حصل الاجتياح البري لغزة، فإنه سوف يؤسس لمشكلة إنسانية عميقة ومعقدة، ويدخِل المنطقة في أتون صراعات جديدة ستبقى طويلاً، وقد تتفاقم وتحدِث كوارث مستقبلية. والاجتياح، إن حصل، فإنه سيبرهن، مرة أخرى، عجز الولايات المتحدة عن التأثير على إسرائيل، في ظل قيادة نتنياهو، الذي يعتقِد بأن إسرائيل يجب أن تسيِّرَ أميركا، وليس العكس.
وكانت صحف عالمية عديدة، منها “الإندبندنت” البريطانية، و”هآرتس” الإسرائيلية، ومجلة “سْلايْت” الأميركية، قد نقلت عن الرئيس بيل كلينتون تساؤله، بعد لقائه بنتنياهو لأول مرة، غاضباً من أقواله وتصرفاته: “كيف يفكر هذا الرجل؟ من هو رئيس الدولة العظمى؟ أنا أم هو؟”، بل استخدم عبارات أكثر حدة، ليس مناسباً نقلها حرفياً. وقد وصف كلينتون نتنياهو بالقول “إنه يعتقد بأنه هو الدولة العظمى، وأننا هنا نفعل كل ما يريده”.
لم يكترث نتنياهو مطلقاً لصورته العالمية، بل كان يتعامل مع الرؤساء الأميركيين بفوقية، على الأكثر بسبب معرفته بضعفهم أمام إسرائيل، التي يعزز قوتها اللوبي الإسرائيلي القوي في أميركا، لكنه انفرد بين قادة إسرائيل بهذا النهج الاستفزازي غير المألوف.
لكنّ ثمة حدوداً للغرور والعنجهية، وموازين القوى في العالم تتغير باستمرار. الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب قدَّم لنتنياهو دعماً لم يحلم به، وأقدم على فعلٍ تردد الرؤساء الأميركيون السابقون جميعاً في الإقدام عليه، ألا وهو نقل السفارة الأميركية إلى القدس. لكن ترامب انتقد نتنياهو أثناء هذه الأزمة، قائلاً إنه “خيَّب ظننا به، وقام بفعل سيّئ جداً، عندما رفض التعاون معنا في التخطيط لعملية قتل الجنرال قاسم سليماني”!
وقد ألَّب هذا الانتقاد على ترامب منافسيه على الرئاسة، وبالتحديد حاكم ولاية فلوريدا رون ديسانتيس، ونائبه السابق مايك بنس، الذي قال إن هذا الرأي “يبرهن على عدم أهلية ترامب للرئاسة”، الأمر الذي دفعه لتغيير موقفه حسب قناة “أم أن بي سي” الأميركية، وهو أمر لم يفعله سابقاً، فالمعروف عن ترامب أنه يتمسك بآرائه.
معظم الإسرائيليين مستاؤون من معالجات حكومة نتنياهو، سواء للقضية الفلسطينية عموماً، أو لهذه الأزمة تحديداً. ابتداءً، يلومون نتنياهو على “غفلته” عن الأمن، واعتماد حكومته على تأييد المحافظين والمتشددين دينياً، الذين يعتقدون بأن من حق إسرائيل أن تستولي على كل أرض فلسطين، ولا يفكرون بحل عصري ومنصف للقضية الفلسطينية، أو في الأقل حل عملي، بل يرفضون إقامة دولة فلسطينية، التي صارت منذ عقود مطلباً عالمياً، وقد أكده الرئيس جو بايدن في كلمته الأخيرة في تل أبيب.
لم يهتم نتنياهو سوى بمستقبله السياسي، والبقاء في السلطة بأي ثمن، حتى وإن كان ذلك على حساب الأمن والاستقرار، وتراجع احتمالات السلام بين إسرائيل وجيرانها. وعلى رغم امتداد حكمه لـ 16 عاماً، وبلوغه الرابعة والسبعين، فإنه لم يتعلم الدروس، إذ بقي متشدداً ومثيراً للجدل، في إسرائيل وخارجها، وقد تمكن من غلق الأبواب على السياسيين الآخرين، عبر تحالفات مؤقتة وهشة مع جماعات متشددة، كما تسبب في تمزيق المعارضة، التي تحولت إلى يمينية في غالبيتها. فرئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت، الأميركي الأصل، هو يميني متشدد، وصار يبز نتنياهو في التشدد، أو يزايد عليه، من أجل الحلول محله.
أما حزب “العمل”، الذي كان زعماء إسرائيل السابقون ينتمون إليه، أو يعتمدون على تأييده، كديفيد بن غوريون وغولدا مائير وإسحاق رابين وشمعون بيريز وأيهود باراك، لم يعد قادراً على الفوز في الانتخابات وتشكيل الحكومة، أو حتى الدخول طرفاً فاعلاً فيها، وآخر منصب حكومي شغله الحزب، كان وزير الدفاع، الذي تولاه رئيس الوزراء الأسبق أيهود باراك، في ظل رئاسة نتنياهو للحكومة عام 2009.
ولا يشغِل حزب “العمل” حاليا سوى أربعة مقاعد، من مجموع 120 في الكنيست، وقد تراجع دوره بعدما صارت المعارضة تزايد على الحكومة في التشدد. نفتالي بينيت، رئيس حزب “اليمين الجديد”، ويائير لابيد، رئيس حزب “يش عتيد” يمينيان، رغم أن الأخير يدعي الوسطية، وليس لديهما أي تصور بشأن إمكانية التعايش مع الفلسطينيين. ولكن، ما الذي يدعوهما لاتباع سياسات معتدلة، إن كانت القوة العظمى في العالم تقف إلى جانبهما دائماً؟
يمكن القول إن وجود نتنياهو في السلطة هو السبب الرئيسي لتعذر الحل للقضية الفلسطينية خلال العقود الثلاثة الأخيرة. فنتنياهو، المولود في تل أبيب عام 1949، والذي جاء والده بنزايون ميلوكويسكي إلى فلسطين من أوروبا الشرقية، إذ ولد في وارسو، واستبدل اسمه البولندي، باسم عبراني، هو نتنياهو، ويعني عطية الله، هو المسؤول الأول عن تنمية التطرف، وجعله النسق العام للسياسة الإسرائيلية، وتخريب اتفاقيات أوسلو، التي كانت تهدف في الأساس إلى إقامة دولة فلسطين.
والغريب أن والد نتنياهو، بنزايون، أو بن صهيون، كان مؤرخاً متخصصاً بـ”العصر الذهبي الإسباني لليهود”، وهي الفترة الممتدة بين القرنين الميلاديين، الثامن والعاشر، التي استقر فيها اليهود اجتماعياً واقتصادياً، وانتعش فيها الدين والثقافة اليهوديان، في ظل الحكم العربي في إسبانيا، وكان يجب على الابن، بنيامين، أن يكون أكثر فهماً وتفهماً للعرب والمسلمين، لكنه اختط نهجاً مختلفاً، إذ سعى بحماسة إلى بناء المستوطنات على الأراضي الفلسطينية، وتشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين. وكان أخوه، يوني، قد قُتل في عملية إنقاذ الرهائن اليهود في مطار عنتيبي في أوغندا عام 1976.
عصر نتنياهو يوشك على الانتهاء، ولكن ماذا بعده؟ هل سيدرك خليفته، كما أدرك إسحاق رابين من قبل، أن الحل العسكري للقضية الفلسطينية مستحيل، وأن الاعتراف بحقوق الفلسطينيين وإقامة دولة فلسطينية مكتملة الأهلية وقابلة للحياة هو الحل الوحيد، دولة يمكن أن يعود إليها فلسطينيو الشتات ويستقروا ويعيشوا حياة عصرية كباقي الشعوب في هذا العصر؟ أم أن مسلسل العنف سوف يستمر من أجل تحقيق فكرة غير قابلة للتطبيق، فكرة لا تختلف كثيراً عما آمن به متشددون كباروخ غولدنشتاين؟
وبعيداً عن عبارات المجاملة والتعاطف التي بدأ بها الرئيس بايدن خطابه في تل أبيب، والمخصصة لإرضاء نتنياهو دون الآخرين، فإن من الضروري البحث عن حلول عملية للقضية، وهذا لن يحصل دون أن ينخرط الأميركيون بقوة في الحل، لأنهم أهم طرف في المشكلة. بايدن تحدث عن الدولة الفلسطينية وضرورة قيامها، وعن حق الفلسطينيين بالعيش بأمن وسلام وكرامة، وأن ذلك لن يتحقق إلا بإقامة الدولة الفلسطينية. المطلوب الآن موقف موحد للفلسطينيين، ومعهم العرب، يتجسد في مبادرة جديدة لإلزام الأميركيين بما ألزموا به أنفسهم، ووضع حد لهذه المأساة التي استمرت طويلاً واستغلتها عبر السنين أطراف عديدة لتمرير مشاريع لا علاقة لها بفلسطين أو شعبها.
حميد الكفائي -باحث في الشؤون السياسية والاقتصادية