هل ستشكّل محلية السياسة ملامح الانتخابات البرلمانية في العراق

هل ستشكّل محلية السياسة ملامح الانتخابات البرلمانية في العراق

شهدت انتخابات مجالس المحافظات العراقية في كانون الأول/ديسمبر 2023 تغييرات كبيرة في المشهد السياسي للبلاد. وتوفر هذه التغييرات، من عدة نواحٍ، رؤى حاسمة حول القوى السياسية المتحولة التي يُرجّح أن تؤثر في الانتخابات البرلمانية المقبلة المقررة في 11 تشرين الثاني/نوفمبر. ومع التطلّع إلى الأمام، من المرجّح أن تُشكّل الديناميكيات المتطورة التي تضع شخصيات مؤسسية بمواجهة سياسيين محليين، ضمن تشكيل ائتلافات جديدة تجمع قوى سياسية متنوعة، أبرز ملامح البيئة الانتخابية العراقية في المرحلة القادمة.

ناخبون عازفون

السؤال الجوهري في المشهد الانتخابي العراقي هو: إلى أي مدى سيُقبل الناخبون على صناديق الاقتراع؟ إذ أصبح التراجع المستمر في نسب المشاركة مصدر قلق بالغ للنخبة الحاكمة في بغداد. فضعف الإقبال يهدد بتقويض شرعية العملية الانتخابية ذاتها، مما قد يضعف بدوره مزاعم النخب السياسية بالشرعية، سواء داخلياً أو أمام المجتمع الدولي.

والمثير للقلق أن المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق يبدو أنها تسهم في إظهار صورة متفائلة أكثر من الواقع. ففي انتخابات 2021 البرلمانية، اعتمدت المفوضية حساب نسب الإقبال استنادًا إلى عدد من حدّثوا بياناتهم الانتخابية، وليس إلى إجمالي عدد العراقيين المؤهلين للتصويت.

ويقول بعض المراقبين إن هذا التغيير أدى إلى تضخيم الأرقام المُعلنة عن نسبة المشاركة. فوفقًا للبيانات الرسمية، فإن الـ9.6 ملايين صوت التي أُدلي بها في انتخابات 2021 شكّلت نسبة مشاركة بلغت 43.5% من أصل 22.1 مليون ناخب مسجل. ولو احتُسبت أعداد العراقيين البالغين غير المسجلين، لكانت النسبة أقل بكثير.

وبطريقة حساب مماثلة، تُشير أرقام المفوضية إلى أن 6.6 ملايين فقط من أصل 16.1 مليون ناخب مسجل شاركوا في انتخابات مجالس المحافظات 2023، بنسبة مشاركة رسمية تقدر بحوالي 41%. لكن تقديرات مجموعات مراقبة الانتخابات، التي اعتمدت عددًا إجماليًا يُقارب 23 مليون ناخب مؤهل، تضع نسبة المشاركة عند 26% فقط. ما يعني أن نحو ثلاثة أرباع العراقيين المؤهلين للتصويت إما امتنعوا عن المشاركة أو لم يسجلوا أساساً.

وتفاقم الوضع حين كانت حسابات الانتخابات السابقة تعتمد على تقديرات سكانية غير دقيقة. أما الآن، فإن بيانات التعداد السكاني الوطني لعام 2024—الأول منذ عام 1987—توفر فرصة لتقييم أكثر دقة لنسب المشاركة المحتملة. ويُشير تحليل لهذه البيانات إلى أن نحو 58% من سكان العراق البالغ عددهم 46.1 مليون نسمة يبلغون 18 عامًا أو أكثر، ما يعادل قرابة 27 مليون ناخب مؤهل. ومع هذا الوضوح الجديد، يبقى المؤشر الرئيسي لنسبة المشاركة في تشرين الثاني/نوفمبر هو عدد العراقيين الذين سيحدّثون بطاقاتهم البيومترية قبل الموعد النهائي الممتد في 15 حزيران/يونيو.

الجميع مدعو

في نهاية المطاف، فإن قدرة القوى السياسية الصاعدة والمهيمنة على حد سواء ستعتمد على مدى قدرتها على تحفيز ناخبين عراقيين باتوا أكثر عزوفاً وانسحاباً من الحياة السياسية.

حتى الآن، لا تزال القواعد الشعبية للأحزاب الوطنية الكبرى مستقرة نسبياً. لكن استناداً إلى أرقام المفوضية، يمكن الافتراض بأن حوالي 3.3 ملايين ناخب صوتوا لمستقلين وأحزاب صغيرة في انتخابات 2021. وإذا استمرت هذه النزعة، فقد تتجه هذه الأصوات نحو القوائم المحلية بقيادة مسؤولين محليين لا تربطهم علاقات قوية بمراكز النفوذ في بغداد.

وتُفاقم من غموض نسبة الإقبال المستقبلي، المقاطعة الانتخابية المستمرة التي يقودها زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر. فبعد محاولته الفاشلة لإقصاء خصومه في “الإطار التنسيقي” الشيعي إثر انتخابات 2021، أعلن الصدر “تقاعده النهائي” من السياسة العراقية. بل إنه دعا، قبل أسابيع فقط من انتخابات مجالس المحافظات 2023، أنصاره إلى مقاطعة الانتخابات متهماً النخبة الحاكمة بالفساد المتجذر.

ومع ذلك، دعا الصدر في شباط/فبراير 2025 أنصاره إلى تحديث بطاقاتهم الانتخابية، ما أثار التكهنات بشأن نواياه الحقيقية. ويرى البعض أن هذا التحرك قد يُمهّد لمشاركة غير مباشرة عبر قوائم انتخابية مرتبطة بالتيار الصدري، بينما يرى آخرون أن الغرض منه فقط هو إبراز أزمة شرعية الانتخابات عبر تسليط الضوء على ضعف الإقبال.

التغيير أصبح القاعدة

من اللافت أن الانتخابات البرلمانية المقبلة ستُجرى وفق نظام انتخابي مختلف عن ذلك المُعتمد في 2021. ففي استجابة لمطالب حركة احتجاج تشرين 2019، صوّت البرلمان عام 2020 لإلغاء نظام التمثيل النسبي القائم على القوائم، الذي كان يُنظر إليه على أنه يخدم الأحزاب التقليدية، واستبداله بنظام “الصوت غير القابل للتحويل” (SNTV).

وقد أتاح هذا النظام الفرصة لصعود المستقلين والأحزاب الصغيرة التي استطاعت الفوز عبر دعم محلي مركّز. حيث حصل نحو 1.7 مليون ناخب على مستقلين، فيما حصلت أحزاب صغيرة أخرى على 1.6 مليون صوت ولم تحصد أكثر من مقعدين، ما يمثل 34% من إجمالي الأصوات.

لكن البرلمان عاد وألغى هذا النظام قبل انتخابات 2023 وأعاد نظام التمثيل النسبي وفق طريقة سانت-لاغو، مبررًا الخطوة بأن نظام SNTV أدى إلى تشرذم البرلمان وصعوبة تشكيل الحكومات. غير أن هذا التغيير، بحسب مراقبين، أضعف فرص المستقلين والأحزاب الصغيرة وأعاد الأفضلية إلى الكتل التقليدية.

وقد بدأت ملامح أثر هذا التغيير بالظهور، فبينما حاز المستقلون أو الأحزاب ذات المقعد الواحد على 60 مقعدًا (18%) في برلمان 2021، تراجع هذا العدد إلى 19 مقعدًا فقط من أصل 285 في انتخابات المحافظات 2023 (حوالي 6%).

عودة الكبار

ويُتوقع أن يُعيد النظام النسبي في انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر 2025 الزخم إلى الأحزاب الكبرى التي أدّت أداءً ضعيفًا عام 2021 بسبب أخطاء تكتيكية وقعت ضمن نظام SNTV. فقد خاضت قوى الإطار التنسيقي الحاكمة الانتخابات بعدة مرشحين في الدائرة الواحدة، ما شتت أصواتها.

وقد تراجع تحالف الفتح—بقيادة هادي العامري —من 48 مقعداً في 2018 إلى 16 في 2021. وكذلك انهار تحالف النصر برئاسة حيدر العبادي مع تيار الحكمة بقيادة عمار الحكيم من 61 إلى 5 مقاعد.

أما النظام النسبي، فيُعالج هذه الإشكالية من خلال جمع الأصوات على مستوى المحافظات وتوزيع المقاعد على نحو تناسبي.

ولا عجب أن يكون هذا النظام قد ساعد على عودة تحالف “نبني”، النسخة الموسّعة والمجددة من تحالف الفتح، ليكون الفائز الأكبر في انتخابات 2023 بحصوله على 43 من أصل 285 مقعدًا، مستفيدًا من مقاطعة التيار الصدري.

الانعطافة المحلية

ربما كان أبرز ما في انتخابات 2023 هو نجاح عدد من المحافظين الحاليين الذين أسسوا أحزاباً محلية خاصة بهم وتفوقوا على القوى الوطنية التقليدية. وقد فُسر هذا التحول كإشارة إلى تصاعد محورية الديناميكيات المحلية في السياسة العراقية.

فقد أظهرت النجاحات في البصرة وكربلاء وواسط أن المسؤولين المحليين الذين يقدمون تحسينات ملموسة في الخدمات والبنية التحتية يمكنهم أن يصبحوا فاعلين سياسيين كباراً، ويتحرروا من قبضة الأحزاب التقليدية.

وقد ساعدت الوفرة المالية الناجمة عن ارتفاع عائدات النفط على تعزيز قدرة المسؤولين المحليين على تقديم الخدمات. فقد ارتفع الإنفاق الاستثماري المخصص للمحافظات من 1.5 تريليون دينار (1.15 مليار دولار) في 2021 إلى 4.5 تريليون دينار (3.4 مليار دولار) في 2024.

وفي إشارة إضافية إلى صعود الدور السياسي للمحليين، ضم التحالف الحكومي الجديد “الائتلاف من أجل الإعمار والتنمية” برئاسة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، محافظ كربلاء نصيف الخطابي. علماً أن “تحالف الإبداع” الذي شكّله الخطابي في انتخابات 2023 جاء بعد انفصاله عن علاقته السابقة مع ائتلاف دولة القانون بزعامة نوري المالكي.

ومع اقتراب الانتخابات البرلمانية، من المرجّح أن تحذو قوى سياسية كبرى أخرى حذو هذا النمط، وتسعى إلى استقطاب شخصيات محلية بارزة لتعزيز قوائمها. وبينما تبقى احتمالات هيمنة الأحزاب التقليدية على البرلمان قائمة، إلا أن الانتخابات المقبلة قد تشهد مشهداً سياسياً أكثر تماسكاً تُمارس فيه القوى المحلية نفوذاً أكبر على السياسة الوطنية.

بقلم “علي المولى” محلل وباحث مستقل متخصص في الاقتصاد السياسي العراقي
تابعونا عبر تليغرام
Ad 6
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com