الكرادة التي نجت.. نموذج عن عراق التسامح والتنوّع

الكرادة التي نجت.. نموذج عن عراق التسامح والتنوّع

 

نَجت الكرادة ثم تعافت، كما نجت مدن عربية عدّة، بيروت، دمشق، غزة، وأخيراً مراكش، درنة، استثماراً في الكارثة، وخلق وجود جديد مزدهر.

مِن أرض زراعية تنعم بالنماء والهدوء والاستقرار، إلى منطقة سكنية عمرانية؛ ملتقى للفعاليات الثقافية، أسواق تجارية، مراكز ثقافية للبعثات الأجنبية، أندية اجتماعية ورياضية، تشهد على التسامح والمواطنة والتنوّع الإثني، صفات الأرض الرافدينية العراقية.

هكذا أصبحت منطقة الكرادة، أرقى أحياء بغداد وأكثرها ازدهاراً ثقافياً وتجارياً، سكن فيها اليهود والمسيحيون والمسلمون معاً، في أجواء من التآخي المجتمعي، على الرغم من تناقضاتهم، وربما بفضل التناقضات تلك، كما يقول رولان بارت.

 إشارات رافدينية وإسلامية ومسيحية

يرجع البعض التسمية إلى الكلمة التركية العثمانية (كَرَدَه)، وهي وسيلة لنقل الماء من النهر إلى البساتين، إذ كانت المنطقة زراعية بامتياز (45) قرية، فضلاً عن بعض قصور الأغنياء عند احتلال الجيش البريطاني للعراق عام 1917.

أما الشاعر العراقي معروف الرصافي، فيشير إلى أصلها الفارسي، وتعني السوق في كتابه “الأداة والآلة”، بينما يعزو البعض تسميتها إلى العصر البابلي. تحوّلت تلك الأرض الزراعية إلى ثلاث كرادات هي: كرادة داخل، وكرادة خارج، وكرادة مريم.

ثمّة رأي لافت حول التسمية لدى الباحث والمختص في اللسانيات سعيد الجعفر، الذي تحدّث لـ”الشرق” عن “عدم توفّر معاجم عربية حول المناطق الجغرافية، أسوة باللغات الأخرى، علماً أن البحث في أصل تسمية المناطق والمعالم الجغرافية، لا يشبه البحث في أصل تسمية المفردات كأسماء الورود والحيوانات”.

أضاف: “هناك اتجاه في علم اللسانيات يسمّى الإتومولوجيا الشعبية، يعتمد الجِناس وخلق قصّة منه، مثلما يروّج حالياً بأن الكرادة من “الكرود”، وهذا السند غير علمي ولا يعتدّ به، وهو الشائع على مواقع التواصل الاجتماعي”.

وأكد أن “تقصّي تسمية الكرادة، يتطلب التحقّق من المصادر التاريخية التي تطرّقت إلى مدينة بغداد، وهي كثيرة، منها “تاريخ بغداد” في 14 جزءاً للأديب البغدادي، وكذلك متابعة ما كتبه علماء عراقيون مثل الأب الباحث أنستاس الكرملي، ومصطفى جواد.

كرادة التسامح: مسيحيون ويهود ومسلمون

يقول الباحث والكاتب العراقي جمال حيدر، مؤلف رواية “شموع على أرصفة الكرادة”، وهو من سكان الكرادة أصلاً لـ “الشرق”، “إن المدينة عاشت في منتصف الستينيات مشهداً قائماً على التسامح والحداثة والتنوير، وما زلت أتذكّر أقراني الطلبة المسيحيين في الدراسة، يتعايشون في جوّ من الوفاق والاحترام، وكانت الدولة العراقية وقتذاك، تمنح عطلة رسمية في المناسبات الدينية “المسيحية”.

ويعزو سبب التسامح المجتمعي إلى أن “الفئات المسحوقة تستجير ببعضها، وتشعر بالأمان والحماية معاً، وعليه، فقد عاش المسلمون والمسيحيون واليهود في وئام في الكرادة”. ويستطرد “ما زلت أرى المدن في ترحالي وكأنها الكرادة”.

التهجير القسري

تمّ تهجير اليهود قسراً، وهم مواطنون عراقيون أحبوا العراق، وأسهموا في نهضته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولا يزالون متمسّكين بتقاليدهم العراقية في فلسطين. (حافظ المسلمون على ممتلكات اليهود في أثناء حادثة “الفرهود”، التي يُعتقد بتدبيرها صهيونياً).

وهذا القول ينطبق تماماً على المسيحيين، إذ تمّ تهجيرهم ظلماً وتعسّفاً، والاستيلاء على بعض أملاكهم عنوة. وها هي منازلهم وعقاراتهم خالية في منطقة البتاوين مثلاً.

إن العراق الحديث هو نتاج كل طوائفه ومكوّناته وأديانه الكثيرة، المندائية، الكاكائية، البهائية، الإيزيدية، وسواها. أصبحت الكرادة راهناً، منطقة شيعية بامتياز بسب التهجير العشوائي.

نصب كهرمانة

يستقبل الزائرون على مدخل الكرادة النصب المعروف “كهرمانة” للنحات محمد غني حكمت، الواقع في مدخل الكرادة، محاكاة لقصص ألف ليلة وليلة. وتحفل الكرادة إلى جانب الأسواق والمحال التجارية، بصالات العرض الفنية، التي كانت في أيام الحصار الجائر على العراق، تقوم باستنساخ الأعمال الفنية وبيعها.

يقول الشاعر والناقد التشكيلي محمد الناصري، “لا تقارن الكرادة ببغداد لجهة القاعات الفنية الحديثة، أسوة بالوزيرية أو شارع “أبي نواس” مثلاً، لكن تميّزت بوجود محال وقاعات فنية كثيرة، تبيع الأعمال الفنية “التجارية” بتقنيات بارعة، ونسخاً للوحات المستشرقين، وكذلك موضوعات محلية تستوحي تراث بغداد في الأبواب الخشبية والشناشيل والبيوت القديمة”.

ويقول المدير الفني لصالة “ذا غاليري” رياض غنية، “أنشأنا الجاليري وفقاً لمواصفات حديثة، وذلك لخلو المنطقة من صالات فنية كهذه، ومن أجل تقديم التشكيل العراقي بطريقة تليق به وبمكانته، وهكذا، ندعم وصول الأعمال الفنية العراقية إلى مستوى سعري جيد”.

الجدير بالذكر، أن سوق العمل الفني في الكرادة ازدهر أيام الحصار ومنذ أواسط تسعينيات القرن الماضي، كما ازدهرت المبيعات بعد الاحتلال الأميركي في 2003، من قِبل الجنود الأميركيين.

“كهوة وكتاب”

يعدّ مقهى “كهوة وكتاب” الذي يضم قاعة للصور واللوحات، ملتقى للأدباء والفنانين، حيث تقدّم الأعمال الأدبية والموسيقية، وينطبق ذلك على مقهى “رضا علوان”، وهما من المعالم الأدبية الشهيرة في الكرادة.

ويعبّر العراقي حيدر الكرادي عن ألمه وحزنه لما آلت إليه الأمور، ويقول “كان لدينا جيران من الطوائف والأديان كلها، عشنا معهم في أخوّة وتضامن ومصير مشترك، ولا زلنا نتابع أخبارهم في المنافي، ولدينا الاستعداد التامّ لاستقبالهم مرّة ثانية والعيش معاً، كانوا للعراق ثروة إنسانية وثقافية”.

معالم وأسواق الكرادة

تؤسس الفئات الاجتماعية واقعاً لها، يشير إلى أصولها عرقياً ودينياً واقتصادياً وعمرانياً، ما نسميه اليوم بـسوسيولوجيا المدن والطعام والملابس، وصولاً إلى سوسيولوجيا المادة المستعملة في البناء، من الطين والصخور والمرمر، إذ لكل مادة وأسلوب بناء، ارتباط بالمناخ والتقاليد والمجتمعات.

يقول الفنّان المعماري رفعت الجادرجي: “إن العمارة هي نتاج يد الإنسان وفكره، أي تعامل يد الإنسان وفكره مع موادّ خام، ومن تحويلها أو تغييرها، من حالة فيزيو كيماوية معيّنة إلى أخرى”.

وفي ما يتعلّق بمدنية العِمارة وعلاقتها بالمجتمع، يضيف “أن فنّ العمارة مستلّ من الوضع الاجتماعي، وكلما كان المجتمع منفتحاً، جَنحَت العمارة إلى الانفتاح والعصرية”.

وهكذا، تشهد المعالم التاريخية والأندية الاجتماعية والأسواق في الكرادة على تنوّع المجتمع العراقي المشهور بطوائفه وإثنياته، والتأكيد في الآن ذاته على أن العراق، كان وطناً للجميع.

الكرادة التي لا تنام

تنتشر المحلات التجارية والمولات الضخمة على جانبي الكرادة، وهي بحقّ رافد اقتصادي لا غنى عنه للتجارة، سواء لأهالي الكرادة أو للذين يقصدون المكان من خارجها. تمتلئ الكرادة بالمطاعم الشعبية العريقة، ويقصدها الناس من المناطق المجاورة، كما يفتخر الحلاقون والحرفيون والباعة بجودة عملهم.

وعن الكرادة التي لا تنام، يقول محمد عبد الرضا صاحب كشك للشاي “أشتغل لغاية الثانية ليلاً، ثم يأتي شريكي، ليواصل المشوار، نعمل 24 ساعة”.

وعندما لاحظ استغرابنا، أوضح “نعم منذ الثانية ليلاً، تبدأ حركة عربات الأكل وبسطات القيمر والكاهي والمشويات، لتقديم خدماتها إلى العمّال والمسافرين، ويستمر هذا الحال حتى الثامنة صباحاً، عندها تبدأ المقاهي والمحلات بالعمل”.

اللافت، هو أن بسطات الأكل والملابس والخضروات، تنتشر على جانبي الطريق، في مظاهر من الشعبية والأريحية، وغالباً ما تسبب عرقلة حركة المرور على الأرصفة.

 الاقتصاد غير المُهيكل

يقول المواطن حسن الحيدري “الرصيف هو ملك عام ومخصص للسابلة، ولكن وبسبب ارتفاع أسعار تأجير المحلات، وغالباً عدم توافرها، فقد افترشنا الرصيف رزقاً لإعالة عوائلنا”. وعليه، تعيش فئات مسحوقة على هذا النوع من الاقتصاد غير المهيكل، أي الذي لا يخضع إلى الضريبة أو مراقبة الدولة.

في هذا الصدد يقول الاقتصادي سرمد الثامر “تسهم البسطات وعربات الطعام وأكشاك الشاي، بدعم قوت الفئات الفقيرة، كما تقوم بتخفيض الأسعار وتأمين الحياة لشريحة واسعة من المجتمع مقارنة بالمتاجر”.

هذا الاقتصاد الجزئي، موجود في بلدان عربية وأجنبية كثيرة، فقد أسس المهاجرون في أوروبا مثلاً أسواق شعبية، لكنها أكثر نظامية من هنا، كما تدعم البلديات الأسواق، لقاء أجر زهيد.

هكذا، تجمع الكرادة بين الفقر والثراء، وهذا التناقض الطبقي والمجتمعي قد ميّزها منذ نشوئها كما أسلفنا، بيوت الطين إلى جانب بساتين الأغنياء.

تفجير الكرادة.. موحشة وحزينة

شهدت الكرادة في تموز 2016 تفجيراً إرهابياً هو الأفظع منذ الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، راح ضحيته حوالي 320 شهيداً، وجُرح أكثر من 200، من بينهم أطفال ونساء؛ وأعلن تنظيم “داعش” مسؤوليته عن التفجير الذي هزّ الضمير الإنساني، لكنه لم يلق إلا بيانات الاستنكار، وكأن الدم العراقي يساوي الشجب فحسب!

حدث التفجير في نهاية شهر رمضان عند السحور، حيث تخرج العوائل للتسوّق احتفالاً بالعيد. يقول أحمد داخل، صاحب محل للملابس، “أطاح التفجير بالحركة التجارية، التي لم تتعاف إلا منذ فترة، طغت المأساة على الأهالي، فعزف المواطن عن التسوّق، ما جعل الكرادة حزينة وموحشة بعد ما كانت زاهية وحيوية”.

 المأساة أدبياً وفنياً

يتغلّب العراقيون وكعادتهم دائماً على الدم والقتل، بفعاليات أدبية وفنية، تيمناً بإرث حضاري تاريخي؛ إذ انتصر الملك كلكامش على الموت أدبياً عبر ملحمته الشهيرة.

يقول الفنّان الفوتوغرافي هاتف فرحان، “قمت بعد التفجير بتوثيق المعرض البصري والأدائي بمساهمة 16 فناناً، في مدخل مجمع الليث التجاري، أداء مسرحي، نحت، لوحات وصور فوتوغرافية، وكان رأي المشاركين بجعله متجوّلاً بين عواصم العالم، تظاهرة عراقية ضدّ الإرهاب ودعوة للسلام”.

لم يكن الشعر بعيداً عن إدانة الإرهاب، فقد نشر الشاعر أحمد هاشم قصيدة بعنوان “الكرادة في ليلة القدر”: ما أروع الحياة.. وهكذا، نارٌ، وأظلم الكون وكأن الخلق لم يبدأ بعد. لا مُعين لهذا الطين”.

“بدأت الأجساد تسقط تِباعاً تاركةً حلماً يغفو بين جفونها، حلم النجاة من موت فرض حضوره بقوّة على الناس، ليخلّف وراءه كل هذا الحزن.. كل هذا الألم”، من رواية” شموع على أرصفة الكرادة” للكاتب العراقي جمال حيدر.

تابعونا عبر تليغرام
Ad 6
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com